يَعْجَبُ المرء عندما يتأمل تلك المواقف التى حدثت على نحو يشعر بالإعجاز، ويقف إزاءها مندهشا متسائلا: كيف حدث هذا؟ وكيف وقع على هذا النحو الإعجازى الباهر؟ وكيف تكررت تلك المواقف الفذة فى تاريخ البشرية بشكل يكاد المرء معه يجزم بأنها تخضع لناموس مستقر!!
كيف استطاع نبي الله ابراهيم عليه السلام أن يجابه الجاهلية العاتية، التى ضربت بأطنابها على كل معمور من أرض الله آنذاك، وبسطت ظلالها الكثيفة على كل البقاع والأصقاع فلم تدع رطبا ولا يابساً ولا سهلا ولا وعرا إلا وأحكمت عليه قبضتها وبسطت عليه سلطتها؟! وبأى قلب تحمل الموقف الرهيب الرعيب؛ وقد اجتمع الناس عليه وجمعوا له، اجتمعوا عليه؛ فلم يتخلف منهم حاكم ولا محكوم ولا سيد ولا مسود، وجمعوا له؛ فلم يتركوا جليلا ولا حقيرا يضرم النار ويزكى الاستعار إلا احتملوه؟! ومن أين استمد القوة والثبات فى لحظة يطير فيها القلب هلعا، وتتفطر فيها النفس جزعا؛ ساعة أن لفظته الجاهلية فى المنجنيق وقذفت به فى سواء الحريق؟!
كيف استطاع كليم الله موسى عليه السلام أن يطأ بإرادته البلاط الفرعونى وهو يعلم أنه مطلوب لدى السلطات الفرعونيه؟! وكيف استطاع أن يشنق الخوف على باب قلبه، وأن ينفض عن نفسه كل هاجسة تثير القلق والتوتر مثلما ينفض الطائر عن جناحيه كل ما يعيقه عن الطيران والتحليق؟! وبأي سحر روحانيّ وقف السحرة التائبون هذا الموقف الأسطوري وليس لهم عهد في الإيمان سوى ساعة أو بعض ساعة؟! وبأيّ لسان وجنان صدرت تلك القذائف الدامغة التي سجلها القرآن في مواجهة التهديد الرهيب الرعيب؛ لتبقى شاهدة على سحر الإيمان: (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) (طه 72) (وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) (الأعراف 126) (قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ) (الشعراء 50)!!
وأَىّ قوةٍ تلك التى حولت الفَرَّ كَرًّا وصيرت الهزيمة نصرا؛ يوم أن أُفْرِدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فى واد حنين، وسط محيط من سيوف الكفر تغذيه سيول تتدفق من أعالى الجبال وقم التلال، فإذا بصوت عال كأنه زئير الجبال: “أنا النبى لا كذب أنا ابن عبد المطلب”!!
وكيف استطاع عبد ضعيف مضيع مثل بلال، كسره الرق وأحناه ذل العبودية، أن يكسر أنف الطغيان وأن يحنى هامة الكفر، وأن يفرض على الدنيا إلى يوم الدين أن تسمع همسته تحت وطأة الحجر: “أحد أحد “!!
يكاد الانسان منا يتوهم أن أولئك الذين وقفوا تلك المواقف العظيمة لم يكونوا بشرا ويوشك المرء منا أن يرسم لهم صورا أسطورية من وحى الخيال والواقع الذى يشهد به التاريخ أنهم لم يكونوا إلا بشرا مثلنا؛ فما الذى صنع بهم هذه المعجزات ؟! إنه الإيمان، إنه اليقين، إنه الثبات المستمد من قوة الإيمان وصدق اليقين، إنه العزم الذى يستمد مضاءه من الإعتصام بالله والرضى بقضائه واللجأ الى حمايته وعنايته.
وإن أمتنا العربية والاسلامية فى أيامها هذه لفى مسيس الحاجة الى هذه القوة الخلاقة لكى تصنع المعجزة التى تنتظرها البشرية المعذبة؛ لتخرج من عبادة العباد الى عبادة رب العباد ومن جور الأديان الى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا الى سعة الدنيا والآخرة، وعلى أمتنا وهى تشق طريقها الى غايتها المنشودة أن تدشن مسيرتها بذكر الله؛ ألا (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: 28).
إنّنا في أيامنا هذه ونحن نواجه كل هذه التحديات في أمسّ الحاجة إلى تقوية الإيمان، وتمتين اليقين، وتوثيق الصلة بالله، ولا غنى لنا عن ذلك ولو ملكنا أعلى مقومات الفلاح والنجاح – ولسنا في الواقع حائزين لأدناها – فنحن نواجه واحداً من خيارين لا ثالث لهما: قمة المجد أو قاع اللحد، هكذا لم تدع لنا المعركة القائمة بشروطها الصارمة خيارا وسطا، فإمّا أن تنطلق الأمة إلى حيث تبلغ غاية التمكين وإمّا أن تسحق تحت أقدام الطغاة المستبدين.
وقد هيأتنا الظروف التي مرت بنا ولازالت تَعْرُكنا للاستفادة من تلاوة الكتاب العزيز ومن تدبر آياته استفادة على مستوى صناعة الحالة الإيمانية الخارقة؛ فإنّ من شروط حصول ذلك أن يكون التدبر مقرونا بمعايشة الواقع وحمل همة ومعالجة مقتضياته، أمّا التدبر العلميّ المحصور بين الأروقة الأكاديمية والمخنوق بأجوائها الباردة فإنّها ينتج رشدا أكاديمياً لا يجاوز السطور التي اشتملت عليه.
وإذا كان رمضان قد أوشك أن ينصرم فلم يبق منه إلا أيام قلائل فإنّ هذه الأيام القلائل كافية في تشكيل المنصة اللازمة، منصة الانطلاق في طريق تدبر القرآن الكريم ذلك النوع من التدبر الذي يحي من الموات ويبعث الرقاد، فهلا سارعنا إلى هذا الخير الكبير؟ إنّنا والله لقادرون على ذلك إذا أردنا ثم لأنفسنا جاهدنا؛ (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت 69).