تقنيات المرحلية للقوى الصاعدة .. طالبان أنموذجا

بعد صعود طالبان وسط هذه التحديات الكبرى أصبح الالتزام بالتدرج والمرحلية في إقامة الحكم الإسلاميّ ضروريًّا، وصار من العبث تجاهل هذه الاستراتيجية أو التنكر لها؛ فما هي تقنيات المرحلية التي نرى من وجهة نظرنا أنّها تتناسب مع الحالة الأفغانية؟ ولا ريب أنّ حديثنا عن هذه التقنيات والآليات الاستراتيجية يُبْنَى ابتداءً على المفروغية من مسألة مشروعية التدرج في تطبيق الشريعة والمرحلية في إقامة الحكم الإسلاميّ؛ ومع ذلك سوف نُلِمُّ إلمامة عاجلة بقضية المشروعية، قبل أن ندلف إلى الموضوع.

ولسنا بحاجة إلى الإغراق في تعريف المعَرَّفْ، فالمرحلية ببساطة شديدة تعني: “تنفيذ المشروعات الكبيرة عبر مراحل متعددة ومتوالية ومتتابعة، كل مرحلة تسلم إلى التي تليها، بتدرج يتسلسل وفق سلم الأولويات” أمّا التدرج فهو ارتقاء الدرج الصاعد درجة درجة، يقال: تدرج أي تَصَعَّدَ درجة درجة([1]).

مَأْخَذُ القول بمشروعية التدرج والمرحلية

ينبني القول بمشروعية التدرج والمرحلية في إقامة الحكم الإسلاميّ وتطبيق الشريعة الإسلامية على أصول عريقة ثابتة، أولها: أن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها، فانه سبحانه وتعالى لا يكلف العباد إلا بما أمكن علمه والعمل به، قال تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة: 286)، (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) (الحج: 78)، (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: 185)، (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) (النساء: 28)، وفي ضوء هذه الآيات وضع العلماء جملة من القواعد الفقهية الكلية، تدخل جميعها تحت هذه القاعدة الجامعة “المشقة تجلب التيسير”([2])؛ مثل: “لا واجب مع العجز ولا حرام مع الضرورة”([3])، ومثل: “الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة”([4])، ومثل: “الميسور لا يسقط بالمعسور” و”ما لا يدرك كله لا يترك كله” وغير ذلك من القواعد الفقهية الكلية التي تنظم العمل بالأحكام الشرعية في حال الضرورة، ومساحات الضرورة في مراحل إقامة الحكم الإسلاميّ تتسع في المراحل الأولى حتى تكاد تلتهم الواقع كله في بعض الحلات، ثم تضيق شيئا فشيئا حتى تضمحل في المراحل المتقدمة أو تتلاشى في كثير من الحلات.

ثاني هذه الأصول: أنّ الاستقراء التاريخي لعملية التشريع يثبت بيقين أن الشارع الحكيم أخذ الناس على تؤدة وأناة فعلمهم الإيمان والتوحيد وأصول الأخلاق وبعض الشعائر التعبدية ثم نقلهم شيئا فشيئا وصعد بهم في درج التشريع، قال تعالى: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا) (الإسراء: 106)، وعن عائشة: “إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنَ المُفَصَّلِ، فِيهَا ذِكْرُ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الإِسْلاَمِ نَزَلَ الحَلاَلُ وَالحَرَامُ، وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ: لاَ تَشْرَبُوا الخَمْرَ، لَقَالُوا: لاَ نَدَعُ الخَمْرَ أَبَدًا، وَلَوْ نَزَلَ: لاَ تَزْنُوا، لَقَالُوا: لاَ نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا، لَقَدْ نَزَلَ بِمَكَّةَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ البَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَهُ”([5])

وإذا كان التدرج في التشريع الذي وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم غرضه وقصده التمكين للشريعة بتثبيت أحكامها على تؤدة وروية؛ لئلا ينقلب الناس عليها وينفروا منها، فإن ذات الغرض والقصد يَسْتَدْعِى التدرج في التطبيق إذا وجدت نفس الظروف ونفس الأسباب ونفس العلل في أي زمان أو مكان، أي أن التدرج في التشريع دليل على مشروعية التدرج في التطبيق وأصل له.

ثالث هذه الأصول: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم شرع التدرج في التطبيق والتنفيذ؛ إذْ إنّه لما بعث معاذا إلى اليمن قال له: «إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ»([6]).

إنّ التدرج في التطبيق لا يُنْقص الدين بعد تمامه وكماله، لأنه لا يعتمد على إنكار أو جحد لما تأخر تطبيقه من الشريعة، ولا يرفع حكما كان مطبقا من قبل، كما أنّه لا يخل بمبدأ الاستسلام للشرع والدينونة بأحكامه كلها؛ لأن تطبيق بعض الأحكام وتأجيل بعضها ليس تحكيما للهوى على حساب الشرع، وإنما هو خطة لتعظيم الشرع والتمكين له في النفوس والمجتمعات، وحماية له من ارتداد الناس وخروجهم عليه، كما أنَّه ليس تعطيلا لما تأخر تطبيقه من الأحكام والنُّظُم الإسلامية، وليس رفضا للدخول في كافة شرائع الإسلام، وإنما هو تهيئة وإعداد للمجتمعات لتستقبل الحكم الإسلاميّ برضا وتسليم، فيحدث التوقير للشرع والتعظيم لأحكامه، مع تفادي المعوقات الخارجية التي يعلمها الكافّة.

تقنيات التدرج والمرحلية

أولا: البدء بالأمور التي لا تختلف فيها النظم المعاصرة مع الإسلام، والتي منها أنّ الأمة صاحبة السلطان، ومصدر الشرعية السياسية للحاكم، وأنّ الحكم يقوم على أساس علاقة عقدية بين الحاكم والمحكوم، ويمكن في هذا السياق استبدال البيعة بالانتخابات مع التعديل في قانون الانتخابات بما يخلصه من بعض أضراره التي يعاني منها الغرب نفسه، وذلك بعد الفترة الانتقالية التي يحق لطالبان أن تحكم فيها بموجب الضرورة؛ تستطيع فيها إعادة بناء المجتمع من جديد وفي القلب منه أهل الحل والعقد.

ومنها كذلك مبدأ استقلال القضاء، ويقصد به: «ألا يقع القضاة تحت تأثير سلطة أو شخص من شأنه أن ينحرف بالقضاء عن هدفه الأسمى وهو إقامة العدل بين الناس»([7])، ومما يعزّز قابلية النظام الإسلاميّ لهذا المبدأ أمور، أولها: أنَّ ولي الأمر ليس له أن ينقض قضاء القاضي؛ ثانيها: أنّه لا يجوز للإمام أن يقلد القضاء لواحد على أن يحكم بمذهب بعينه، ثالثها: أنّ الإمام إذا مات أو عزل لم ينعزل القاضي بموته أو عزله؛ لأنّه عندما ولاه إنما ولاه بالوكالة عن الأمة، فإذا ذهب الوكيل بقي الأصيل.

ومنها توقيت عقد رئاسة الدولة، وهو مبدأ وإن لم يكن له صورة تطبيقية في التاريخ الإسلامي ولا حتى في حكم الخلفاء الراشدين، فإنّ الأحكام الشرعية المنظمة للحكم في الإسلام تقبله، وطبيعة النظام يقبله؛ لأنّ العلاقة علاقة تعاقد؛ ومن ثم فإنّ لطرفي العقد الحق في الاشتراط، فإذا شرطت الأمة على الحاكم أن يبقى مدة معينة في الحكم لا يتجاوزها فلها ذلك، وهذه الأمور ليست توقيفية حتى يقال إن الاستحداث فيها يعدُّ بدعة لم ترد، لأن «ما كان من أمور الحياة المغيرة من العادات والأعراف والأوضاع الإدارية والاجتماعية والثقافية والسياسية ونحوها ليس من البدعة في شيء بل هو مما سماه العلماء المصالح المرسلة»([8])، ولا يشترط فيها إلا عدم المخالفة لقواعد الشرع وأحكامه ومقاصده.

ثانيا: البدء بالأحكام الشرعية التي تحقق العدالة الاجتماعية، انطلاقا من القاعدة الدستورية العليا: (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) (الحشر: 7) ومن أمثلة ذلك أن يخصص جزء من موارد الدولة الريعية التي لم يبذل أحد من الناس أو قطاع من القطاعات جهداً في إيجاد أصلها، والتي هي بأصلها محض هبة من الله تعالى، وهي تشبه الفئ الذي لم يوجف عليه أحدٌ خيلًا ولا ركاباً، كالبترول أو الغاز أو السياحة، فيخصص جزء منها أو نسبة لمحدودي الدخل ولإعادة بناء العشوائيات ولإصلاح مرافق البسطاء ..إلخ، ومن أمثلتها توظيف أحكام الزكاة والأوقاف الخيرية والأهلية بعد نزعها من الحكومة في تقديم خدمات تعليمية وصحية وإقامة مشاريع خيرية لمحدودي الدخل، إنّ الأحكام المحققة للعدالة الاجتماعية كثيرة ووفيرة، وكذلك الأحكام التي تحدد وظيفة الدولة تجاه تحقيق العدالة الاجتماعية، فإذا بادرت الدولة بإقاماتها قبل التوجه إلى إقامة العقوبات على السارق، كان ذلك السلوك منها مبادرة إلى توثيق علاقتها بالشعب وإظهار محاسن الشريعة، وقبل ذلك هو سلوك إسلاميّ وحضاريّ عادل.

ثالثا: إقامة مؤسسات المجتمع المدنيّ وتمتينها في المرحلة الانتقالية السابقة على إقامة مؤسسات الدولة؛ وذلك لأنّ قوة المجتمع تجاه الدولة يمنع من تغولها على الأفراد، ويمثل ضمانة للحقوق والحريات، كما أنّ هذه المؤسسات كلما كانت قوية أدت من جهة إلى تماسك المجتمع، ومن جهة أخرى تكون قوتها في حقيقة الأمر قوة للدولة، من هذه المؤسسات المجتمعية: النقابات المهنية، والجمعيات الأهلية، والأوقاف بأنواعها، والأندية التخصصية كنادي القضاة ونادي الأكاديميين وغير ذلك.

رابعاً: التخلي مرحليا عن بعض الأمور الشكلية مثل اسم “الإمارة الإسلامية” مع التمسك بالمضمون، وذلك هو عين ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديبية، عندما لم يتمسك بوضع وصف “رسول الله” بجوار اسمه في نص العهد، مع أنّه رسول الله حقا وصدقا.

خامسا: إعمال المقاصد الشرعية، والاهتمام بالأحكام التي تحقق الصيانة لحقوق الإنسان، كحق الإنسان في الحرية وفي الأمن و غير ذلك، ومن الممكن – بل من اللائق – أن يصاحب إعلان الدولة وتشكيل الحكومة المؤقتة التي تدير المرحلة الانتقالية إعلان “الميثاق الإسلاميّ لحقوق الإنسان” وأن يصاغ صياغة لا تخالف الشريعة، وفي ذات الوقت تأتي ملبية لفطرة الناس وحبهم للحريات والحقوق الطبيعية.

وما تقدمت هنا به إنْ هو إلا اجتهاد، وأسأل الله السلامة والاستقامة، والله تعالى أعلى وأعلم.

———————————————-

([1]) راجع: المعجم الوسيط 1/277
([2]) الأشباه والنظائر للسيوطى ص160، الأشباه والنظائر لابن نجيم ص830 المنثور للزركشي 3/169، مجلة الأحكام العدلية م/17.
([3]) إعلام الموقعين لابن القيم 2/41، القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه ص 92.
([4]) مجلة الأحكام العدلية م/22، الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 100، الأشباه والنظائر للسيوطى ص180، المنثور 2/24، البرهان للجوينى 2/606
([5]) صحيح البخاري (6/ 185) برقم (4993)
([6]) متفق عليه، صحيح البخاري (2/ 129) برقم (1496) وصحيح مسلم (1/ 50) برقم (19).
([7]) انظر، القضاء في الإسلام د. محمد عبد القادر أبو فارس (ص175).
([8]) من فقه الدولة في الإسلام، د. القرضاوي (ص85).