لعل الشيخ محمد حسان – وهو ذكيٌّ نرجسيّ – أَحْسَنَ الاستفادة من تجربة الشيخ يعقوب؛ فتخلص من كثير من الإحراجات والمواقف التي تُصَفِّرُ وجوه الرجال، لكنّ هذا لا يعني أنّه أحسن في أداء الشهادة، أو أدى ولو قليلا من الأداء الذي يُنتظر من رجل في مثل مكانته الدعوية والشرعية، فالشهادة في مضمونها وحقيقتها استجواب من رئيس المحكمة، أشبه ما يكون باستجواب ضابط أمن الدولة لمتهم سياسيّ ضعيف، والجلسة من أولها إلى آخرها اتهامات تُلْقَى ودُفُوعٌ تُزْجَى، ولَئِنْ كان الشيخ قد نجح في التخلص منها بأجوبة بدا أنّها مُعَدَّةٌ سلفاً؛ فإنّ المحكمة في المقابل قد نجحت نجاحا كبيرا في إظهاره بمظهرٍ متهافتٍ لا يليق برجل كبير، وفي الختام تحقق المرام وقررت المحكمة صرف الشيخ بسلام.
فأكثر ما لفت نظري وأثار انتباهي شهادته في الإخوان المسلمين
والحقيقة التي لا يصح أن ننساها في زحام الاعتراض والامتعاض من أداء الرجلين في شهادتهما هي أنّ الدنيا قد تغيرت كثيراً، فَشَتَّانَ ما بين أمس واليوم، أمس حيث شهادة الشيخ صلاح أبو إسماعيل والشيخ محمد الغزالي والدكتور مزروعة، واليوم حيث شهاد يعقوب وحسان، وللإنصاف فإنّ الفرق الهائل لا يتجلى فقط في أداء الشهود وفي قوة وثبات الأوائل وضعف وتهافت الأواخر، وإنّما يتجلى في كل شيء يتعلق بالعدالة، فلا المحاكم كالمحاكم، ولا القضاة كالقضاة، ولا المحاماة كالمحاماة، كل شيء جِدُّ مختلف حتى المناخ العام والجو العام؛ لذلك جاء السياق كله غاية في الركاكة والعسف والرجعية.
وهذا الذي جرى يعكس بوضوح درجة الانحراف عمّا كانت عليه البلاد حتى في عهد مبارك المستبد الفاسد الذي قامت عليه الثورة، بما يعني أنّ الانقلاب استهدف كل ما تبقى من قيم المجتمع، وبما يؤكد أنّ طريق التغيير طويل وشاقٌ، وبما يوجب العمل الدؤوب والسعي الحثيث لتدارك البلاد وإنقاذها من ذلك المستنقع الذي غرقت فيه حتى لبَّتها، لقد صار واضحاً أنّنا تأخرنا كثيرا وتجافينا عن واجبنا طويلا، وآن لنا أن نطرح خلافاتنا وأن نسعى جادين لإنقاذ بلادنا.
أمّا عمّا ورد في شهادة الشيخ حسّان فأكثر ما لفت نظري وأثار انتباهي شهادته في الإخوان المسلمين؛ ليس لأنّه ظلمهم وأنصف غيرهم، فهو لم يكن في الحقيقة منصفا مع مستقيم ولا منحرف، فالجميع واقعون في الخطأ غارقون في الإثم، أمّا النظام وأمّا العسكر وأمّا السيسي فلا مساس بهم ولا تعرض لهم، ولست هنا أدافع عن الإخوان بقدر ما أدافع عن الفكرة؛ إذْ إنّ الرجل استطاع أن يقلب الفقه السياسي والفكر السياسي رأسا على عقب، كما استطاع أن يصنع فقها يمارس إسباغ الشرعية على الانقلابات وعلى الحكم العسكريّ الظالم الغاشم.
يأيها الشيخ المثير للدهشة: ألم يأتك نبأ أبي بكر والذين معه
وقد تركزت شهادته عن الإخوان المسلمين في ثلاث جمل، الأولى قد نوافقه فيها ولو جزئياً، وهي أنّ الجماعة وهي تمارس السياسة وإدارة الدولة لم تستطع أن تتخلص من تأثير الفقه الخاص بالجماعة كجماعة مغلقة، فالحقيقة أنّ هذه العقدة تطارد الجماعة إلى الآن، لكن هل يُعزى الفشل إلى هذه العلة؟ أو على الأقل: هل انفردت هذه العلة بالسببية؟ أم إنّ الشيخ يريد أن يتجاهل عن عمد مخططات الإفشال التي تعاونت عليها قوى محلية وإقليمية ودولية وتضامنت فيها الدولة العميقة مع العسكر ونشطاء الفتنة؟! لقد أعطى الشيخ بهذه العبارة العابرة صك البراءة لكل من أجرم في حقّ هذا البلد بالمشاركة في التمهيد للانقلاب والتهيئة للانقضاض على التجربة الوليدة، ولعل مزايدات الشيخ حسان وإخوانه على الرئيس مرسي رحمه الله كانت في سياق التمهيد للانقلاب، أم إنّه نسي خطبته الرّنَّانة التي استنكر فيها فتحَ خطٍ للعلاقات السياسية مع إيران؛ بزعم أنّ هذا سيؤدي إلى نشر التشيع؟!
أمّا الجملة الثانية فهي ادعاؤه أنّ الإخوان رفعوا شعار: (الشرعية أو الدم) ومع أنّ القاصي والداني والوليدُ والفاني يعلمون أنّ هذا لم يكن – قَطُّ – شعارا للإخوان المسلمين، ويحفظون شعارهم الذي ظلوا يرددونه إلى يومنا هذا: (سلميتنا أقوى من الرصاص!) مع ذلك أقول: وما العيب في هذا؟ أعني: ما العيب؟ وأين الخطأ في أن يقولوا كلاما كهذا أو يرفعوا شعارا كهذا؟! هَبْ أنّهم رفعوا شعار (الشرعية أو الدم) وعملوا بمقتضاه؛ فهل يعيبهم هذا؟ وإذا لم يَبْذُلْ الناس دماءهم من أجل مبدأ كهذا فلأي شيء يحقنونها ولأي غاية يضنون بها، وإذا لم تُرَقْ دماء المعتدين على إرادة الأمة وشرعية اختيارها ساعة عدوانهم وخروجهم على الدولة بمؤسساتها فمن الذي يراق دمه ويهدر؟ أم إنكم لا تفقهون إلا في دماء النساء ومخاضات الحائض والنفساء؟!
يأيها الشيخ المثير للدهشة: ألم يأتك نبأ أبي بكر والذين معه عندما امتنعت بعضُ القبائل عن أداء الزكاة إليه؟ وقالوا: كنّا نعطيها لرسول الله؛ فما بال ابن أبي قحافة؟ فَهُمْ لم يكفروا ولم يرتدوا ولم ينكروا وجوب الزكاة، وإنّما – فقط – امتنعوا عن أدائها للدولة؛ فكان هذا انقلابا جزئيا على شرعية الخليفة؛ لذلك قال: “والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم على منعه”، وإن كان المبرر الشرعيّ لقتالهم – من الناحية الفقهية – هو الامتناع عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، لكنّ الأثر السياسيّ حاضر بقوة وصراحة؛ بدليل أنّهم – أي الممتنعون – لا يُقَاتَلون إلا حال كونهم طائفة ذات شوكة ومنعة، استعصت بشوكتها على الدولة.
ولقد اجتهدت الأمّة عندما أرادها الأمويون ملكا يُوَرَّثُ فيهم وفي ذراريهم، فانتصب للدفاع عن الشرعية وسلطان الأمة والشورى والخلافة رجال لا يختلف اثنان من الموحدين على فضلهم وجلالة قدرهم، كعليٍّ والحسين وعبد الله بن الزبير، وناصرهم جمهور عريض من المسلمين الذين سكنوا القرون المفضلة الأولى؛ فما رأينا أحدا من علماء الأمة المعتبرين يُثَرّبُ عليهم ولا على من اتبعوهم، ولئن كان جمهور الأمة قد جنحوا إلى حقن الدماء لئلا تظل السيوفُ مغمودةً عن الأعداء مسلولةً على الأولياء؛ فإنّ التجربة التاريخية أثبتت أنّ ضياع الشرعية والانحراف عن منهج الخلافة الذي يُعْلي من إرادة الأمة كان السبب الرئيس في التسريع بسقوط الأمة في جب الاستبداد، ثم مع ذلك لم تحقن الدماء!!
المحكمة في غاية الطمأنينة بسبب شهادة (الشيخين!) للاتجاه إلى توقيع أقسى العقوبات على الشباب
ولقد زعم الشيخ أنّه تمنى أن لو تنازل الإخوان عنها للسيسي واقتدوا في ذلك بالحسن بن عليّ حين تنازل عن الخلافة لمعاوية! وتلك ثالثة الأثافي في شهادته، وتلك – لعمري – خطيئة كبرى وقع فيها الشيخ مرارا قبل ذلك ويقع فيها كثيرٌ من أضرابه، فإنّ الحسن لم يتنازل عنها لمنقلب لا شرعية له، وإنّما تنازل عنها بعد أن حاز جرءاً من الشرعية لرجل حاز هو الآخر جزءاً من الشرعية، فمن المعلوم تاريخيا أنّه بعد اغتيال الخوارج لسيدنا عليّ بويع لابنه الحسن في العراق والحجاز وكان أهل الشام والغرب كله قد اجتمعوا على معاوية وسموه الأمير ورفضوا أداء البيعة للحسن، وفيهم من فضلاء الصحابة والتابعين الكثير؛ فصارت الأمة منقسمة بين رجلين كلٌّ منهما يحوز جزءا من الشرعية، ونفس المشهد تكرر مع ابن الزبير بعد ذلك؛ حيث بويع له في الحجاز والعراق ومصر، بينما بويع لعبد الملك بن مروان في الشام، لكنّ عبد الله لم يتنازل فكانت الحرب التي انتهت بمقتله واستقرار الأمر للأسرة المروانية الأموية.
ثم إنّ وَضْعَه للسيسي في مقارنة مع معاوية أمرٌ يثير الاشمئزاز ويستدعي الغثيان ويذري برجل من رجال الإسلام، يُعَدُّ – بلا خلاف بين أهل السنة – من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويُعَدُّ – على الأقل في مذهب الشيخ – من خيار الأمة وفضلائها، فهل يصح أن نضعه في مقارنة مع السيسيّ، إنّني لا أشك لحظة في أنّه لو سافر أحدٌ عبر الزمن ليلتقي بالناس في عهد الأمويين، فصادف أشدّ العلماء حنقا – ليس على معاوية ولا من أدنى منه منزلة من بني أمية – وإنّما على الحجاج بن يوسف الثقفيّ ذلك السفاح المبير، فقال له: “إنّ الحجاج يقف مع إسرائيل في خندق واحد ضد الإسلام وأهله” لانتفض مستعيذا بالله من ذلك الإفك الذي يلقى على قائد كالحجاج، كان يقوم على الجيوش الإسلامية التي فتحت الشرق الأقصى، كجيش قتيبة بن مسلم وجيش محمد بن القاسم.
لقد اكتفيت فقط بهذا الجزء من شهادته في حقّ الإخوان المسلمين؛ كأنموذج للتدليس، وإلا فإنّ جميع من تطرق إليهم بالحديث قد ظُلِموا وَحَلَّ على رؤوسهم الافتراء، وفي النهاية المحكمة في غاية الطمأنينة بسبب شهادة (الشيخين!) للاتجاه إلى توقيع أقسى العقوبات على الشباب الذين لم نعرف عنهم إلا ما ادعاه النظام عليهم ووجهته النيابة لهم وأذاعته المحكمة في قاعتها (الموقرة!) (والله غالب على أمره).