لا أعتقد أنّ قيس سعيّد يجهل أنّ نصّ المادة 80 من الدستور يقضي بأنّه ارتكب خيانة عظمى بخروجه الصريح على الدستور، هذه المادة التي اعتمد عليها لاتخاذ ما أسماه بـ”التدابير الاستثنائية” اشتملت على المنع من الإجراءات التي أدخلها تحت تلك التدابير، فهل يُعقل أنّه يجهل هذا وهو رجل القانون المخضرم؟! أم إنّه مُسَيَّر لا مُخَيَّر وليس سوى دمية يحركها العسكر ومن ورائهم الاحتلال الفرنسيّ الذي لم يخرج بعد من تونس والذي لم يزل يحكمها ويتحكم فيها عن طريق وكلائه المخلصين له؟!
وهذا نص العبارة المانعة من ذلك التصرف الأهوج الطائش الذي ارتكبه؛ فوالله لو كان قول الله تعالى (قل هو الله أحد) يحتمل تأويلا لأمكن العبث بمحتويات هذا النص: “وفي هذه الحالة لا يجوز لرئيس الجمهورية حل مجلس نواب الشعب كما لا يجوز تقديم لائحة لوم ضد الحكومة”، والنص غاية في الوضوح وفي الدلالة على مناقضة القرارات للدستور؛ فأين هي دستورية قرارات الرئيس التي يحاول كثير من الدجالين فرضها على الوعي التونسي والعربيّ بقوة الكذب المدجج بالصفاقة والإسفاف؟!
فبالقطع لا يمكن القول بأنّ (الرئيس!) تصرف بإرادته أو اتخذ تلك (التدابير!) بتدبيرٍ من رأسه
والأمر لا يقف عند هذا الحدّ الذي يمنع الرئيس من تصرف كهذا، بل يتعداه إلى إعطاء البرلمان في هذه الظروف الاستثنائية صلاحيات ربما تفوقق صلاحيات الرئيس فيما يتعلق بالتدابير الاستثنائية، فكأنّ الدستور احترز من انزلاق الرئيس إلى الاستبداد اتكاء على الظروف الاستثنائية فوسّع من صلاحيات البرلمان سدا لذريعة استثمار الظروف الاستثنائية فيما يضر بالشعب، حتى أعطى البرلمان وحده صلاحية العهد إلى المحكمة الدستورية بالبت في استمرار الوضع الاستثنائي من عدمه، فتقول المادة “ويعتبر مجلس النواب في حالة انعقاد دائم طيلة هذه الفترة، وبعد مضي ثلاثين يوما على سريان هذه التدابير وفي كل وقت بعد ذلك يعهد إلى المحكمة الدستورية بطلب من رئيس مجلس نواب الشعب أو ثلاثين من أعضائه البت في استمرار الحالة الاستثنائية من عدمه”.
فبالقطع لا يمكن القول بأنّ (الرئيس!) تصرف بإرادته أو اتخذ تلك (التدابير!) بتدبيرٍ من رأسه، وليس لما يجري إلا تفسير واحد، وهو أنّ الثورة المضادة أدركت مبكرا أنّ الرجل بوق فارغ، وأنّه مهووس -على خلاف ما كان يبدو منه- بالرئاسة، فاتخذته رأس حربة لتنفيذ مخططها الانقلابيّ، وربما بعد أن تفرغ من العدو التقليديّ “النهضة وما حولها من الإسلاميين” تنقلب عليه وتصفي حسابها معه، ولقد بدا الرجل في صوته الذي يشبه قَرْع القِراب الجوفاء، وفي نظراته التي كانت تتوجه بين الفينة والفينة صوب الرتب المصفوفة كأنها قرون استشعار لصرصور متوجس، وفي عباراته المتقطعة التي ازدحمت وتدافعت على فمه كتدافع الصبيان أمام قفص الأسود يحبون رؤيتها ويهابون مشهدها، لقد بدا الرجل في ذلك كله الذي يلحظه المتفرسون أنّه -رغم ما يحاول إظهاره من الحزم ورباطة الجأش- مُهْتَزٌّ مزَلْزَل الأركان.
هي الثورة المضادة إذنْ؛ فلا تعجب إذا رأيت الانقلاب على الدستور ومؤسساته الشرعية يأتي هذه المرة من جهة الرجل الذي يمتلك الشرعية، فإنّ في جرابها العميق الأغوار ما ليس في جراب “الحاوي” من الحيل التي يعجز الخلق عن إحصاها، وَلَكَمْ عانَت البشريةُ المستَعبَدَةُ دوماً والمناضلةُ من أجل الحرية أبداً من تلك الثورات المضادة، التي كانت في كل مرة تولد مع الثورة وتمضي بمحاذاتها كأنّهما الشيءُ وظله، حتى تقضي عليها قضاء مبرما أو تتعايش معها فتحول مكتسباتها إلى صور وأشكال لا روح فيها ولا حياة، حتى النبوة التي هي رسالة سماوية لم تسلم من ذلك، فكان لها دائما حركة مضادة لبست نفس اللبوس لتعيد الناس إلى الجاهلية باسم الإسلام! وسلوا التاريخ عن مسيلمة وسجاح لتعرفوا أنّ قيس سعيد وعبير موسي ليسا بدعا في الدجل الانقلابي وفي الثورات المضادة.
فقيس سعيد لم يُفصح عن هويته الحقيقية إلا مع زيارته لفرنسا ولقائه بـ”ماكرون”
إنّ ما جرى في تونس يؤكد على جملة من الحقائق التي يجب استحضارها دائما لدى من يهتمون بوضع رؤية لمستقبل البلاد العربية والإسلامية ولمستقبل الثورة العربية والربيع العربيّ، أول هذه الحقائق أنّ الخارجَ ضالِعٌ إلى النخاع في كل هذه الانقلابات، فقيس سعيد لم يُفصح عن هويته الحقيقية إلا مع زيارته لفرنسا ولقائه بـ”ماكرون”، ذلك اللقاء الذي أكد أنّ تونس على خُطَى بورقيبة وبن علي في الارتباط بالمحتل الفرنسيّ والتعلق به تعلق الغريق بأسباب النجاة، وجدلية “الداخل أم الخارج” لا قيمة لها أمام سيل الشواهد والظواهر التي تؤكد أنّ بلادنا تدار من الخارج لا من الداخل، ولا يشوش على دلالة الظواهر المتواترة أنّ حكومات الداخل وما يحيط بها من مخلوقات نفعية هي التي تمارس القهر والإذلال بيدها، لأننا صرنا ندرك بالضرورة كما يدرك الصبي طريقه إلى ثدي أمه أنّ هؤلاء ما هم إلا أذرع الخارج وأدواته التي ينفذ بها مخططاته ويحقق من خلالها أطماعه.
ثاني هذه الحقائق أنّ الغرض الأول للثورة المضادة هو القضاء على الثورة وتجفيف منابعها، بغض النظر عن المستهدف من الناس بالانقلاب عليه، وإذا كانت الثورة قد أثمرت الإرادة الشعبية والشرعية الدستورية؛ فلتكن هذه الثمرة أول ما يوطأ بالأقدام، وإنْ بِيَدِ من جاء بالإرادة الشعبية وعبر الشرعية الدستورية، المهم هو انتصار الطغمة التي تضع نفسها فوق الدستور وفوق إرادة الشعوب، هذا هو القدر المشترك في جميع الثورات المضادة التي رغم اختلافها الكبير في الشكل والصورة اتفقت في الغاية والمقصد.
وَثَمَّ حقيقةٌ ثالثة تؤكدها التجارب المدعومة بشهادات التاريخ، وهي ضرورة تغيير أنماط الفعاليات الثورية والحراك الثوري، فما عاد يجدي التظاهر المجرد ولو تعالى زخمه، ولا الاعتصامات ولو اكتظت بها الميادين، ولا المسيرات ولو امتلأت بها الشوارع، ما عاد يجدي شيء من ذلك قط، لسبب واحد غاية في الظهور والسفور، وهو أنّ كل هذه الأنظمة أخذت من أسيادها الضوء الأخضر لسحق أي حراك في الشارع بلا أدنى رحمة أو شفقة، فإذا كنّا نؤمن بأنّ هذه الأنظمة احتلال بالوكالة فلا مناص من امتلاك الوسائل التي تصيبها بالدوار وتجعلها على الأقل تقبل بالجلوس على مائدة التفاوض باحترام وتقدير لمن يجلس معها ويفاوضها، أمّا ما هي تحديدا الوسائل والآليات فَيُسأل عنها أهل الذكر من أرباب هذا الفنّ فنّ المقاومة والتغيير والتثوير، ولقد وُضعت في ذلك مؤلفات عابرة للقارات، وتجاربُ الثورات في العصر الحديث فيها الكفاية، فما من ثورة نجحت إلا وكان عنصر “الحسم الاستراتيجي” حاضرا فيها.
إنَّ الاستقراء التام للثورات التي قامت بها الشعوب ضد الاستبداد والعسف لتؤكد أنَّ ذلك “الحسم الاستراتيجي” هي كلمة السر في التغيير الحقيقيّ، فها هي الثورة الفرنسية كان سر نجاحها كامنا في تلك الموجة العاتية التي اقتلعت (الباستيل) رمز الظلم والقهر، كما يصف هربرت فيشر بكل صراحة وموضوعية إذ يقول “بيد أنَّ الاستيلاء -رغم تدنُّسه بالجريمة- على ذلك السجن القديم الذي في أطراف باريس وهدمه كان عملاً سياسيا فَذًّا ورائعاً؛ ففي طول أوربا وعرضها هلل الناس وكبروا مرحبين بسقوط الباستيل كخاتمة للطغيان المستتر والسجن الظالم المستبد، وكبشير لبزوغ فجر الحرية”([1]).
إنَّ أخطر ما ارتكبته الثورة -لا سيما في مصر وتونس- من أخطاء هي تلك التي نجا منها الجيل الأول
والحقيقة أنّني لا ينتابني تردد في أن أشبه الثورة المضادة بحركات الردَّة التي اجتاحت جزيرة العرب عقب وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فبرغم التباين الشديد بين طبيعة النبوة الصادقة وطبيعة الثورة الصادقة نجد التطابق شديداً بين النبوة الكاذبة والثورة المضادة، فكلتاهما انقلاب على الجديد وارتداد إلى القديم عن طريق ارتداء ثوب الجديد (النبوة الصادقة أو الثورة الصادقة).
لذلك يجب أن تكون المقارنةُ بين ما آل إليه الوضع في الأولى وما آل إليه في الآخرة كاشفةً عن العوامل التي أفضى التمسك بها إلى تجاوز الأزمة في الأولى، كما أدى التفريط فيها إلى الانسحاق تحت مطارق الأزمة في الآخرة، فما هي العوامل التي أدى تمسك المسلمين بها إلى طيّ صفحة النبوة المضادة، وأدى تفريطنا فيها إلى التمكين للثورة المضادة؟
لقد كان الموقف من النبوة المضادة واضحاً وصريحاً من مبدأ الأمر إلى منتهاه، فلم يقع ثم تصالح ولا تهاون، ولا تردد ولا تسويف، وإنما كانت الشدة في مواجهة الردة، وكان الحزم والعزم في التصدي للزندقة والمروق، إلى درجة أنَّ كثيراً من العلماء تأولوا في الصديق ومن معه قول الله تعالى من سورة المائدة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ 54).
إنَّ أخطر ما ارتكبته الثورة -لا سيما في مصر وتونس- من أخطاء هي تلك التي نجا منها الجيل الأول لهذه الأمة وغرق في لججها هذا الجيل، إنها الهوادة مع الظالمين والمجرمين، إلى الحدِّ الذي بلغ بكثير من القيادات -ولا سيما الإسلاميين- أن يضعوا أيديهم في أيدٍ ملطخة بدماء الناس وأموالهم، ويعقدوا معهم الصفقات التي يخسرون بها شركاءهم في الثورة، ويركنوا إليهم الركون المنهيّ عنه والْمُحَذَّر منه في كتاب الله تعالى: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ) (آل عمران: 113).
ذاك كان الخطأ الأكبر الذي تولدت عنه باقي الأخطاء ونتجت عنه سائر الانحرافات، وجاء بعد ذلك التذبذب والارتباك في الولاءات ليقلب الرفقاء إلى فرقاء، ويحول الشركاء إلى ألداء، ثم كانت القاصمة في التهاون مع المجرمين والتمكين لهم، بسبب ترك أسباب القوة المشروعة لردع المجرمين في جميع المواضع التي توفرت فيها الشرعية الكافية لاستعمال القوة، سواء الشرعية الثورية أو الشرعية السياسية، لا لشيء إلا لمجرد الفزع من تهويل المهولين.
آن للشعوب العربية والإسلامية وسائر الشعوب المقهورة في أرض الله التي جعلها الجبابرة حكرا على مصالحهم وشهواتهم أن تتعلم الدرس وأن تفيء إلى الرشد وأن تبدأ نضالا جديدا جِدّةً كاملة، يأخذ من الربيع العربيّ روحه الباعثة، ويدع آلياته التي كان لها ظرفها الخاص الذي لم يتكرر ولن يتكرر، آن لنا جميعا أن نستوعب الدروس وألا نضيع الفرص بتكرار الوقوع في الأخطاء المتكررة، ولنكن على يقين -رغم كل ما يجري- بأنّ النصر قادم، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (يوسف: 21).
————
(1) تاريخ أوربا في العصر الحديث- هربرت فِشر- ت: أحمد نجيب هاشم، وزميله- ط دار المعارف- مصر- ط6 صـ12